Skip to main content

نسيب عريضة

تعد تجربة الشاعر السوري نسيب عريضة علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث، حيث لم تقتصر مساهمته على كونه شاعراً مغترباً، بل كان رائداً مؤسساً صاغ بفكره وقلمه ملامح مدرسة المهجر الشمالي. بدأت حكاية هذا الأديب في مدينة حمص، المعروفة بلقب أم الحجارة السود، حيث ولد نسيب بن أسعد عريضة في آب عام 1887، في وقت كانت فيه المنطقة تشهد تحولات اجتماعية وثقافية لافتة. 

نشأ عريضة في كنف عائلة كادحة امتهنت صناعة النسيج التقليدية، حيث كان منزلهم يضم أنوالاً يدوية تعكس روح المثابرة والارتباط بالهوية المحلية، وهي البيئة التي صقلت وجدان الشاعر قبل أن ينطلق في رحابه التعليمية الواسعة. وقد وفّرت له المسيرة التعليمية المبكرة جسراً ثقافياً متيناً، إذ بدأ تعليمه في المدرسة الروسية بحمص، ثم أهّله تفوقه الدراسي للحصول على منحة لمتابعة دراسته في مدرسة الناصرة بفلسطين، وهي المحطة التي يصفها النقاد بأنها كانت حاسمة في تكوينه الفني. 

ففي الناصرة، التقى عريضة بزملاء شكلوا معه لاحقاً نواة الحداثة الأدبية، وفي مقدمتهم ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد، حيث أمضى هناك سنوات من التحصيل المعرفي الذي مزج بين الأصالة العربية والانفتاح على الفكر العالمي. ومع مطلع عام 1905، اتخذ نسيب قرار الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، منضماً إلى قوافل المهاجرين الذين سعوا وراء فضاءات جديدة للعمل والإبداع، ليستقر في مدينة نيويورك التي كانت تمثل له مزيجاً من الفرص المادية والتحديات الوجودية القاسية.

في نيويورك، لم تكن المكابدة في سبيل العيش بعيدة عن طموحه الثقافي، فأسس في عام 1912 مجلة الفنون، التي اعتُبرت أول محاولة رائدة لإنشاء منبر أدبي وفني خالص في بيئة المهجر. وكانت "الفنون" المختبر الذي نضجت فيه دعوات التجديد، حيث استقطبت أقلام كبار الأدباء مثل جبران خليل جبران، وبذل عريضة في سبيل استمرارها جهوداً مضنية وتضحيات مالية كبيرة، حتى حين واجهت المجلة تحديات أدت لتوقفها، بقيت بذورها حية لتزهر في نيسان 1920 عند تأسيس الرابطة القلمية.

داخل هذه الرابطة، برز نسيب عريضة كعقل موسوعي، لُقب بـ "دائرة المعارف العربية في المهجر" نظراً لتمكنه العميق من التراث العربي القديم وقدرته الفائقة على استحضار الجماليات التراثية في سياق حديث، مما جعله مرجعاً أساسياً لرفاقه في صياغة هوية المدرسة المهجرية.

أما على الصعيد الإبداعي، فإن ديوانه الوحيد "الأرواح الحائرة" يمثل خلاصة فلسفته التي قامت على الحيرة الوجودية والشك الذي يقود إلى التأمل، حيث لقب بـ "شاعر الحيرة الأكبر" لتفرده في سبر أغوار القلق الإنساني والبحث عن المعنى. لم يكن شعره مجرد رصف للكلمات، بل كان رحلة روحية تتجلى فيها ثنائية النفس والجسد، كما في قصيدته الشهيرة "يا نفس" التي جسد فيها صراع الروح التائقة للتحرر. 

وبالرغم من سنوات الغربة الطويلة، ظل الحنين إلى حمص حاضراً بقوة في شعره، وتجلت هذه العاطفة في قصيدته "أم الحجارة السود"، التي خاطب فيها مدينته بحب جارف، واصفاً إياها بكعبة الأبطال، ومعبراً عن شوقه لأن يكون ثراها هو المستقر الأخير. كما تميز بنثره القصصي الذي جمع بين التاريخ والتحليل النفسي، وقدرته الاستثنائية على الترجمة الأدبية التي نقل من خلالها روائع الأدب الروسي إلى العربية بأسلوب رفيع.

استمر عطاء عريضة الصحفي والأدبي عبر رئاسة تحرير صحف مهمة مثل مرآة الغرب والهدى، رغم معاناته في سنواته الأخيرة مع المرض. وتوجت رحلته بمفارقة تراجيدية تعكس عمق مأساته الشخصية، حيث وافته المنية في الخامس والعشرين من مارس عام 1946 في بروكلين، قبل صدور ديوانه الأرواح الحائرة بأربعة أيام فقط، ليرحل وهو لا يزال يترقب ملامسة نتاج عمره.

لقد ترك نسيب عريضة إرثاً غنياً يؤكد أن الأدب هو الجسر الذي يعبر عليه الإنسان من غربته المكانية إلى وطنه الروحي، وسيبقى ذكره خالداً كأحد البناة الذين رفعوا مداميك النهضة الأدبية العربية في العالم الجديد، محولاً آلام الاغتراب إلى نصوص خالدة تخاطب الوجدان الإنساني في كل مكان.   

الزيارات: 9 زيارة