Skip to main content

نزار قباني

يُعدّ الشاعر نزار قباني (1923-1998) ظاهرة ثقافية تجاوزت حدود الأدب لتصبح حالة اجتماعية، ورمزاً للشاعر الذي استطاع أن يتربع على عرش "جمهورية الشعر"، جامعاً بين التعبير عن أدق خلجات الحب وأعنف نوبات الغضب الوطني. وُلد نزار في دمشق عام 1923، داخل بيت شامي عريق شكّل وعيه الجمالي الأول، وهو "الرحم الذي علمه الشعر والإبداع وأهداه أبجدية الياسمين"، كما ذكر في وصيته. 

ورغم أن مسيرته المهنية بدأت في السلك الدبلوماسي بعد تخرجه من كلية الحقوق عام 1945، وهو ما فرض عليه منطق التحفظ، إلا أن نزار قباني رفض منذ البداية أن يُحبس في تصنيف "شاعر المرأة" الضيق. كان يصرّ دائماً على أن "الذي يحب المرأة يحب وطناً"، وأن تناوله لتفاصيل الحياة اليومية هو مدخل للتعبير عن حياة بكاملها. لذلك، حين عصفت الهزائم السياسية بالعالم العربي، لم تُولد هويته السياسية من فراغ، بل كشفت عن هذا الارتباط العضوي بين الحب والوطن. لقد أجبرت الهزيمةُ الشاعرَ على التحول، وكما عبّر هو نفسه: "حوّلتَني بلحظةٍ من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين لشاعرٍ يكتبُ بالسكين". 

كانت هزيمة حزيران عام 1967 هي الحدث المفصلي الذي أحدث هذه النقلة النوعية في مسيرته، وأجبره على كشف هذا الغضب الكامن. جاءت استجابته المزلزلة في قصيدته الطويلة "هوامش على دفتر النكسة"، التي تُعد البيان التأسيسي لمرحلته السياسية. في هذه القصيدة، مارس نزار نقداً ذاتياً شجاعاً للواقع العربي، مهاجماً ثقافة "العنتريات التي ما قتلت ذبابة" والاعتماد على الخطابة بدلاً من الفعل. وفي جرأة نادرة، كان من أوائل المثقفين الذين ربطوا الهزيمة العسكرية بالاستبداد الداخلي، ووجّه خطابه إلى السلطان مباشرة، منتقداً دولة الخوف والقمع التي أدت إلى الانهيار. لكن "هوامش" لم تكن مجرد رثاء، بل كانت أيضاً "نبوءة" ؛ فبعد أن عبر عن يأسه من جيله، وضع نزار كل أمله في جيل المستقبل، وخاطب الأطفال قائلاً: "يا أيها الأطفال .. من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمال ... وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلال ... وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمة". لقد أدرك أن الشعر لم يعد ترفاً، بل "غضب طالت أظافره ... ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا". 

شكلت القضية الفلسطينية جرحاً مركزياً ومحوراً دائماً في شعره الوطني، وأُفردت دراسات وكتب لتحليل هذا الجانب من إرثه. وتطور تناوله للقضية بشكل ملحوظ؛ فمن الرثاء العاطفي العميق في قصيدته "يا قدس"، التي صور فيها المدينة كأيقونة حزينة "جميلة تلتف بالسواد"، إلى تبني صوت المقاومة الفعلي. فبعد هزيمة الجيوش النظامية، تحول أمله نحو المقاومة الشعبية، وتجلى ذلك في قصيدته الشهيرة "أصبح عندي الآن بندقية". في هذه القصيدة، تصبح البندقية هي الحل الوحيد، وهي تُشترى بأغلى ما يملك الإنسان "خاتم أمي بعته ... من أجل بندقية"، في قطيعة تامة مع عصر الخطابة العاجز. لقد استخدم نزار قضيته المركزية كمرآة لفضح التخاذل الرسمي، لكنه في الجوهر كان يدافع عنها كقضية جمالية، معتبراً أن اغتصاب الأرض هو جريمة ضد الجمال لا تختلف عن "أن نقتل عصفوراً في الفجر". 

توزع قلب نزار الشعري بين وطنين: دمشق، الرحم والأصل، وبيروت، الاختيار والحلم. كانت دمشق هي أبجدية الياسمين ومصدر إلهامه الأول، وقصائده لها، مثل "القصيدة الدمشقية"، هي احتفاء بالتاريخ والجمال الأصيل. أما بيروت، التي اختارها ملاذاً ثقافياً له وأسس فيها دار نشره، فمثّلت عاصمة الجمال والحرية وملتقى المثقفين العرب. وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، كان انهياره موازياً لانهيار المدينة. تُعد قصيدته "يا ست الدنيا يا بيروت" توثيقاً عاطفياً ووجدانياً لهذا السقوط. وقد شخصن نزار بيروت في شعره كـ "أنثى"، رابطاً إياها برمزية "عشتار"، الإلهة التي تُمجَّد ثم تُنتهك. 

إن الإنجاز الأكبر لنزار قباني في الشعر السياسي يكمن في أسلوبه. لقد طبق ذات المنهجية التي جعلته رئيس جمهورية الشعر في الغزل: "كسر الطابوهات". فكما كسر طابو الجسد، كسر طابو السلطان. وصف النقاد لغته بالبساطة الصعبة أو السهل الممتنع، فهو لم يستخدم الفصحى الأكاديمية الجافة ولا العامية المبتذلة، بل ابتكر لغة ثالثة تجمع بين رصانة الفصحى وحرارة وشجاعة العامية. لقد نجح في تطبيع العلاقة بين القاموس وحياة الناس، وجعل الشعر السياسي في متناول الجمهور العام، وهذا ما جعل شعره الجسر الذي عبرته الحداثة إلى نبض الجمهور العام. كما استخدم السخرية كسلاح فتاك لتفكيك هيبة الديكتاتورية، كما في رائعته "الحاكم والعصفور"، التي لخصت عبث الدولة البوليسية في طلب "جوازاً للعصفور". 

لقد حسم نزار قباني في النهاية الصراع بين الدبلوماسي والشاعر، فاختار ضمير الشاعر على صمت الموظف. وبعد حياة حافلة بالغضب والحب، توفي في لندن عام 1998، ليعود، كما أوصى، ويُدفن في دمشق، الرحم التي علمته الشعر والإبداع وأهدته أبجدية الياسمين.