Skip to main content

أبو تمام

في تاريخ الأدب العربي، يقف حبيب بن أوس الطائي، المعروف بأبي تمام، كعلامةٍ فارقةٍ وحدٍ فاصلٍ بين عصرين من عصور الشعر: عصر الانقياد للسليقة الفطرية، وعصر إعمال العقل والصنعة الفنية الدقيقة. لم يكن أبو تمام مجرد شاعرٍ ينظم القوافي، بل كان مهندساً للكلمة، وفيلسوفاً ارتأى أن الشعر ليس مجرد شعورٍ يتدفق، بل هو كدحٌ ذهنيٌ وعمليةٌ فكريةٌ معقدةٌ تستوجب الغوص في المعاني واستخراج دررها من قيعانٍ بعيدةٍ لم يصل إليها أحدٌ قبله. وُلد هذا العبقري في قرية "جاسم" من أعمال حوران في سوريا حوالي عام 190 هجرياً، وفي بيئةٍ قد تبدو للوهلة الأولى بعيدةً عن صخب الحواضر الثقافية، نشأ طفلاً يحمل في عروقه دماءً مختلطة، وفي عقله ذكاءً متوقداً، وفي لسانه حبسةً لم تمنعه من أن يصبح لسان عصره الأفصح.

كانت بداية أبي تمام متواضعةً، إذ تشير الروايات إلى أنه عمل في صباه حائكاً أو سقاءً في دمشق، لكن روحه الوثابة لم تكن لترضا بهذه المهن البسيطة سقفاً لطموحاتها. انتقل إلى مصر، وهناك، في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، وجد ضالته؛ فانكب على حلقات العلم ينهل منها بنهمٍ لا يرتوي، ويحفظ آلاف الأراجيز والقصائد للعرب، مُشكلاً بذلك مخزوناً لغوياً هائلاً سيفجره لاحقاً ثورةً في عالم الأدب. لم يكتفِ بالحفظ، بل أعمل عقله في كل ما يقرأ، وبدأ يشق لنفسه طريقاً مغايراً، طريقاً وعراً يعتمد على التجديد، والمغامرة باللغة، واجتراح صورٍ شعريةٍ بكرٍ لم تألفها الأذن العربية التي اعتادت على وضوح المعنى وبساطة التركيب.

حين انتقل أبو تمام إلى العراق، حاضرة الخلافة العباسية ومركز الدنيا في ذلك الحين، كان يحمل معه مشروعه الشعري الناضج، فاصطدم فور وصوله بالذائقة التقليدية السائدة. انقسم الناس حوله بين فريقين متناحريين: فريقٌ رآه مفسداً للشعر، يغرق في الغموض والتعقيد واستخدام المحسنات البديعية بإفراط، وفريقٌ آخر رآه مجدداً عبقرياً استطاع أن ينقل القصيدة العربية من بداوة الصحراء إلى حضارة القصور، ومن وصف الأطلال والناقة إلى تحليل النفس البشرية وفلسفة الوجود. وكان رده الشهير على من سأله: "لمَ لا تقول ما يُفهم؟" بقوله: "ولمَ لا تفهم ما يُقال؟" تلخيصاً دقيقاً لمنهجه الذي يتطلب من المتلقي جهداً عقلياً يوازي جهد الشاعر، ليرتقي القارئ بوعيه إلى مستوى النص.

لم يلبث نجم أبي تمام أن سطع في بلاط الخليفة المعتصم بالله، الذي وجد فيه صوتاً قوياً يخلّد انتصاراته، وعقلاً راجحاً يليق بمجالس الخلفاء. وتجلى هذا التناغم الفريد بين السيف والقلم في قصيدته الخالدة "فتح عمورية"، التي تُعد وثيقةً تاريخيةً وسياسيةً وفنيةً في آنٍ واحد. في تلك القصيدة، لم يكتفِ أبو تمام بوصف المعركة، بل حاكم المنجمين الذين حذروا الخليفة من الحرب، وأعلاء من شأن الإرادة والفعل الحاسم، مخلداً لحظة انتصار المسلمين بأبياتٍ لا تزال تتردد صداها عبر القرون: "السيف أصدق أنباءً من الكتب... في حدّه الحد بين الجد واللعب". لقد حول أبو تمام الحدث العسكري إلى ملحمةٍ فكرية، مصوراً النيران التي التهمت المدينة، والخراب الذي حل بالأعداء، بلغةٍ تركيبيةٍ عالية الكثافة، وصورٍ مركبةٍ تذهل الخيال.

وعلى الرغم من شهرته الطاغية كشاعر، فإن وجهاً آخر لأبي تمام لا يقل روعةً وتأثيراً، وهو وجه الناقد والذواقة الأدبي. فقد اضطرته الظروف يوماً للبقاء في همذان بسبب الثلوج التي قطعت الطرق، فنزل ضيفاً عند أبي الوفاء بن سلمة، الذي وضع مكتبته الضخمة تحت تصرفه. استغل أبو تمام عزلته الإجبارية تلك في قراءة عيون الشعر العربي، وانتقاء أجمل ما قيل فيه، ليخرج للناس بكتاب "الحماسة". وقد قيل بحق: "إن أبا تمام في حماسته أشعر منه في شعره"، وذلك لحسن اختياره، ودقة ذائقته، وترتيبه الأبواب بطريقةٍ مبتكرةٍ كشفت عن فهمٍ عميقٍ لأغراض الشعر ومذاهبه. لقد حفظ هذا الكتاب لغتنا العربية نصوصاً نادرةً لولا اختيارات أبي تمام لضاعت في طيات النسيان.

عاش أبو تمام حياته مسافراً، جواب آفاق، يرحل من والٍ إلى خليفة، ومن مصر إلى العراق فخراسان، حاملاً همّ الشعر وهمّ المعاش. كان شعره مرآةً لعقله أكثر منه مرآةً لقلبه، فكانت عاطفته مكسوةً دائماً برداء العقل، ودمعته ممزوجةً بالحكمة. تميز بالقدرة الفائقة على توليد المعاني، فكان يأخذ المعنى المبتذل فيعيده خلقاً جديداً، ويصوغه صياغةً تبهر الألباب. ورغم ما وُجه إليه من نقدٍ بسبب مبالغاته البديعية وغرابة بعض ألفاظه، إلا أن تأثيره في مسار الشعر العربي كان زلزالاً لا يمكن تجاهله؛ فقد مهد الطريق لمن جاء بعده من الفحول، وتتلمذ على يده البحتري، واستفاد من مدرسته المتنبي، ليصبح بذلك الأب الروحي لتيار التجديد في الشعر العباسي.

في أواخر حياته، تولى بريد الموصل، وهناك وافته المنية عام 231 هجرياً، وهو في ذروة نضجه الفني والفكري. مات أبو تمام، لكن الجدل الذي أثاره لم يمت، وظلت قضية "اللفظ والمعنى" و"البديع والمطبوع" تشغل بال النقاد لقرونٍ طويلةٍ بسببه. لقد رحل الرجل الذي وُصف بأنه "أكلته فكرته"، تاركاً خلفه ديواناً ضخماً وكبواتٍ وجياداً، وإرثاً أدبياً عظيماً أجبر التاريخ على أن يكتب اسمه بحروفٍ من نور. إنه حبيب بن أوس، الطائي نسباً، والعالمي فكراً، الذي علم العرب كيف يفكرون بشعرهم، وكيف يجعلون من القصيدة بنياناً هندسياً رصيناً يتحدى عوامل الزمن والنسيان.

الزيارات: 13 زيارة